لقد جاءت "أولاد حارتنا" كالمفاجأة، فالرواية تمثل التاريخ الروحي للبشرية، وقد قسمت إلى فصول بعدد سور القرآن الكريم، أي 114 فصلا، وشخصيات الإسلام واليهودية والمسيحية العظيمة تجئ متخفية لتواجه مواقف مملوءة بالتوتر فرجل العلم الحديث يمزج بنفس الجدارة بين إكسير الحب وبعض المواد المتفجرة، وهو يتحمل مسؤولية موت الجبلاوي، ولكنه يفنى هناك بريق أمل في نهاية الرواية. كان هذا بعض ما قاله ستوري ألن سكرتير الأكاديمية السويدية في حفل توزيع جوائز نوبل عند تقديم الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ. لذلك يعتبر الكثيرون أن رواية أولاد حارتنا هي السبب الرئيسي في حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل. بالرغم من ذلك لم يستطع الكثير قراءة أولاد حارتنا حتي قراء نجيب محفوظ أنفسهم بسبب إعتراض الأزهر علي نشرها في مصر و ما أثارت حولها من جدل و ضجة كبيرة ما بين مؤيد ومعارض
أولاد حارتنا هي أول الروايات التي كتبها نجيب محفوظ بعد ثورة يوليو بعد أن انتهى من كتابة الثلاثية عام 1952 و هي رواية رمزية أو لنقل إنها مجموعة من الحكايات التي تحاول اتخاذ التاريخ البشري على مر العصور ميدانا لأحداثها يصور فيها نجيب محفوظ نظرته للماضي و يمتد بأحداث الرواية فيصور تخيله للمستقبل. نشرت هذه الرواية في حلقات مسلسلة في جريدة الأهرام، اعترض الأزهر بشدة علي نشر باقي أحداثها وهاجمها الشيوخ و لكن محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام حينذاك ساند نجيب محفوظ و تم نشرها بالكامل. فأرسل الأزهر شكاوى إلى جمال عبد الناصر الذي اهتم بالموضوع و تم منع صدور أي طبعات منها. عاب نجيب محفوظ علي شيوخ الأزهر أنهم قرءوا الرواية بعين رجال الدين، وليس بعين الأدباء والنقاد فأعتبروها نصا دينيا يمس الدين و ليس عملا أدبيا علي حد قوله
الرواية تقع في مائة وأربعة عشر فصلا، بعدد سور القرآن الكريم، وهذا أمر لاحظه الكثيرون. وما من شك في أن هذه الرواية الرمزية قد تعرضت لكثير من الأمور الدينية، سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية، أو غيرها وتناولت الكثير من المقدسات وهذا ما أثار عليها وعلى كاتبها ردود فعل عنيفة، مما جعل الرواية لا تظهر في مصر في كتاب كامل، وإنما نشرت بعض فصولها في الصحف، وصدرت لأول مرة في كتاب ببيروت عام 1962 و لكن وجدت بعض النسخ المهربة طريقها إلي مصر ولكن لم يتم نشرها كاملة في مصر حتى أواخر عام 2006. يعتبر النقاد أولاد حارتنا علامة بارزة في تاريخ الرواية في مصر و الوطن العربي بل و في العالم فقد تم ترجمة الرواية إلي عدة لغات منها الإنجليزية و الألمانية
تبدأ أحداث الرواية بشخص يدعي الجبلاوي. يذكر الكاتب أن مكان الحارة كان خلاء، فهو امتداد لصحراء المقطم، ولم يكن بالخلاء إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي، كأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقطاع الطريق. أنجب الجبلاوي أثنين أحدهما يدعي أدريس و الآخر يدعي أدهم و الذي أنجبه من جارية سوداء. لاحظ أدريس تفضيل الجبلاوي أبنه أدهم عليه فأعلن تمرده و عصيانه للجبلاوي فطرده الجبلاوي من البيت الكبير ليخرج إلي الأرض الواسعة. و تدور الأحداث فيكلف الجبلاوي أدهم بالإشراف علي أوقافه ثم يتزوج أدهم من جارية تدعي أميمة. يحذر الجبلاوي أدهم من الدخول في حجرة في البيت تسمي حجرة الوصية. و لكن بطريقة ما أستطاع أدريس الوصول إلي أدهم و إقناعه بدخول الحجرة. و بعد إلحاح من أميمة تسللا عند الفجر إلى حجرة الأب التي غادرها إلى الحديقة كعادته، لكن الجبلاوي فاجأهما حين عاد إلى حجرته لأمر طاريء وأمر بطردهما من البيت الكبير مثلما فعل قبل ذلك بإدريس ليعيشا في الخلاء. حاول أدهم الوصول إلي الجبلاوي و طلب عفوه حتي أرسل الجبلاوي خادمه قنديل يخبر أدهم بالعفو عنه و أعلمه أن عليه العيش في الحارة و تعميرها. ومع مرور الزمن أنجبت أميمة أولادًا أكبرهم "قدري" والثاني يسمى "همام". تقع مشادة كلامية بين قدري و همام فالتقط قدري حجرًا وقذف به أخاه فقتله. وركبه الخوف فحفر بعصاه بين الجبل والصخرة الكبيرة حفرة دفنه فيها. و عند إكتشاف أدهم للأمر غضب علي قدري. و تمر الأيام و يموت أدهم و يدفن في مقبرة تابعة للوقف
و تمر الأعوام و تبدأ البيوت و الأحياء في الظهور بالحارة و يكثر ساكنيها كلهم بالطبع أحفاد الجبلاوي. ثم ينتقل نجيب محفوظ بنا من قصة آدهم إلى قصة رجل يطلق عليه اسم "جبل". ويصف محفوظ أهل الحارة بأن منهم البائع الجوال، ومنهم صاحب الدكان أو القهوة، وكثير يتسولون، وثمة تجارة مشتركة يعمل فيها كل قادر هي تجارة المخدرات وبخاصة الحشيش والأفيون والمدافع في حين بقي الجبلاوي حيًّا مغلقًا بابه معتزلا الدنيا. أما آل حمدان فقد أقاموا حول البقعة التي بنى أدهم فيها كوخه. وكان هناك بيت للناظر الأفندي تجمهر أمامه جمع كثير من آل حمدان القريب من بيت الجبلاوي يطالبون حقهم في الوقف. أما جبل فقد تربى في بيت الناظر واعتبره ابنه وهكذا أدخل الكتّاب وتعلّم القراءة والكتابة، ولما بلغ رشده ولاه الأفندي إدارة الوقف. وخرج جبل في أحد الأيام عندما فرض نظام منع التجول على آل حمدان فشاهد أحدهم قد اخترق هذا النظام وأخذ يطارده حتى أمسك به فتدخل جبل وقتله. ثم هرب إلى سفح جبل المقطم ثم إلى سوق المقطم. وهناك رأي زحام علي ماء و فتاتان تراجعتا بصفيحتين فارغتين.. أخذ منهما الصفيحتين وملأها بالماء. استدعاه أبوهما المسن فأسكنه في بيته وزوّجه ابنته الصغرى بعد أن قص عليه قصته مع الناظر. ثم علمه كيف يكون (حاويًا ) يستطيع معاشرة الثعابين. و عاد جبل إلي الحارة و أعد خطة فاحتشد رجال حمدان مدججين ثم انطلقت الجموع نحو بيت الناظر واتجه البعض إلى البيت الكبير جدهم الجبلاوي أن يخرج من عزلته ليعالج ما فسد من أمورهم وأمور حارتهم. ومضى جبل إلى بيت الناظر فسمح له بالدخول فأعطي آل حمدان حقهم بالكامل
ثم ينتقل نجيب محفوظ من قصة جبل إلى قصة رفاعة الذي جاء هو أيضا بعد نحو عشرين عاما. تلده أمه عبدة و لم يعرف أحد من يكون والده الحقيقي. يكبر رفاعة و يعمل نجارا ويحاول تعلم الزار من امرأة لكي يطهر الحارة من الأشرار. وكان رفاعة مهتما بتخليص الناس من العفاريت، فبرئ على يديه الكثير، وإن اصطفى من مرضاه أربعة. تدور الأحداث و تنشب عداوة بين رفاعة و بين المعلم بيومي و في أحد الأيام صمم بيومي على الخلاص منه ، وحين هاجم الفتوات دار رفاعة استطاع أصدقاؤه الهروب ، بينما قبضوا علي رفاعة وساقوه حيث قتلوه ، وحزن أصدقاؤه لمقتل رفاعة. وترك أصحاب رفاعة الحارة على أمل أن يتحدوا موته بإحياء رسالته ، وأن ينزلوا العقاب بقاتليه. وتسلل الفتوات بالليل إلى المكان الذي قتل فيه وحفروا مدفنه، ولكنهم لم يعثروا للجثة على أثر. وأخذ الناس في الانتقام من الفتوات بعد موت رفاعة، وانتصروا عليهم، وعاد الذين كانوا قد فروا من الحارة في زمن الاضطهاد، وبدأ عهد جديد، يقوم على الاعتراف بالرفاعيين، والولاء والتقديس لرفاعة ووالدته
و تمر عدة أعوام و لم يتغير شيء في الحارة و البيت الكبير كما هو، وهناك حي حبل وحي رفاعة، ثم مقام من لا صفة لهم ولا نسب، وهم الجرابيع، وهم أتعس أهل الحارة، وكان لك حي فتوته. وينشأ قاسم يتيما عقب وفاة والديه، فيكفله عمه، زكريا ويحبه، ثم يرزق زكريا بابنه حسن، مما جعله يتفاءل بابن أخيه، وكم تطلع قاسم إلى بيت الجبلاوي مفاخرا بجده ومقام جده. بدأ قاسم يرعى نعجة للسيدة قمر، وهي السيدة الوحيدة التي تملك مالا في حي الجرابيع و تكبره سنا. و توطد علاقة قاسم بصادق لقربهما في السن. اتفق قاسم مع عمه علي أن يخطب له قمر الأرملة التي رفضت قبله كثيرا من الأغنياء والفتوات، فكلما عمها الذي وافق مضطرا أمام إصرارها.عاد قاسم إلى بيته ذات يوم وأخبر قمر بما حدث له، حين كان وحده في الخلاء، حيث سمع صوتا يناديه، ورأى شبح رجل واقف، فقال له : أنا قنديل خادم الجبلاوي ، وأخبره أن جده بخير، وأنه يعلم كل شيء عن الحارة وأنه ربما اختاره لحكمته، ولأمانته في بيته. و صدقته قمر و صادق و حسن في ذلك لأنه لم يكذب قط. تحدث مشادات بين أهل الحارة و قاسم بسبب مطالبته بحقوق أهله من الوقف. أتهمه أهل الحارة بالكذب و الجنون و صدقه القليل من الجرابيع. واجتمع قاسم وأصحابه يفكرون في الأمر ، واقترح قاسم أن يهجروا الحارة, وعجب أهل الحارة لاختفاء أصحاب قاسم وشاع خبر هجرتهم، ومرضت قمر, ولازمها قاسم، ولكنها ماتت وتركته وحيدا، ولازمه حزن شديد، وكآبة مضاعفة. و أراد أهل الحارة قتل قاسم و لكنه أستطاع الهرب. وعلم قاسم وأصحابه بأن سوارس أكبر أعداء قاسم سيتزوج وستسير زفته الليلة، ففكروا في الهجوم على الحارة، وفعلا اتجهوا ناحيتها، وخيل لقاسم أنه يرى شبح قنديل، وتقدمت زفة سوارس، وانقض قاسم وأصحابه على سوارس ورجاله، وقتل سوارس، و تخذل رجاله بعد علمهم بمقتله، ففروا، بينما تجمع رجال قاسم حوله وهم يلهثون، وتم النصر لهم و عرفت هذه وسط أهل الحارة بمعركة النبابيت. ثم يعود قاسم و أصحابه إلي الحارة و أتفق آل جبل و آل رفاعة علي قتله و تقوم معركة يتم فيها النصر لقاسم و أصحابه. صار قاسم رجل الحارة دون منازع وتولى شئون النظارة، وعاد الجرابيع إلى حيهم، وبدأ عهد جديد يمتاز بالعدل والسلام، وإن وجد من آل جبل وآل رفاعة من يضمرون غير ما يظهرون. خلف صادق قاسما بعد موته على النظارة فسار سيرته ، وإن رأى قوم أن " حسن " أولى منه بالنظارة لقرابته من قاسم . وبعد رحيل صادق سأل الدم في الحارة وقتل الناظر نفسه في إحدى المعارك وعادت إلى الحارة العصبيات القديمة ، ولم يعد جبل أو رفاعة أو قاسم إلا أسماء وأغاني ينشدها شعراء المقاهي المسطولون. و يذكر الكاتب الإختلاف الذي حدث بين أنصار قاسم الذين رأوا أن رفاعة لم يقتل و لكن الجبلاوي قد أخذه في بيته, بينما رأي الرفاعيين أن الجبلاوي هو والد رفاعة الحقيقي و أنه قد قتل بالفعل
وذات يوم رأت الحارة فتى غريبا قادما من ناحية الخلاء، وتطلعت نحوه الأبصار فتبسم لهم مترددا وسأل عن بدروم خال للإيجار. لقد كان عرفة الذي غاب عن الحارة طويلا ثم عاد إليها مع أخيه ومساعده "حنش" وأصبح محط الأنظار لأنه ساحرا. ويذكر أنه يملك الأعاجيب في حجرته، مع أنه ليس فتوة، ولا من رجال الجبلاوي، ولكنه يحوز قوة لم يحز عشرها جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين. ودار حوار ذات يوم بين عرفة وزوجته فقالت له عن جبل ورفاعة وقاسم: أولئك كلفوا بالعمل من قبل جدنا الواقف، فقال عرفة بضجر جدنا الواقف؟ كل مغلوب على أمره يصيح ولكن هل سمعت عن أحفاد مثلنا لا يرون جدهم، وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنا؟ فقالت: إنه الكبر، فقال لم أسمع عن معمر عاش طول هذا العمر فقالت: ربك قادر على كل شيء فغمغم قائلا : كذلك السحر قادر على كل شيء. كان عرفة أحد القلائل الذين ظهرت عليهم علامات الضيق من الجبلاوي و عدم الإعتراف به. وكان عرفة يحلم بالتسلل إلى البيت الكبير، فسار ذات ليلة تجاهه وشرع في حفر الأرض تحت السور و راح عرفة يزحف خلال الممر، حتى صار داخل البيت الكبير، وأخذ يزحف في حذر شديد ظل يتسلل حتى وصل مخدع الجبلاوي وأشعل شمعة فرأى عجوزا يجاهد للخروج من الغيبوبة الفاصلة بين النوم واليقظة، فانقض عليه مطبقا يمناه على رقبته بكل قوته وساد الظلام بعدما انطفأت الشمعة وتحرك العجوز حركة همد بعدها، وتراجع عرفة خائر القوى، ثم تسلل خارجا وقد تملكه فزع شديد. وجلجل صوت في السكون ،وإذا بأحد أهل الحارة يقول : مات الجبلاوي
وهرب عرفة من الحارة ، وكان قد استطاع تركيب مادة سحرية ظل يضعها مدة طويلة فذهب في طريقه فلقي الفتوة سعد الله فانقض عليه خلسة وقتله ، ولما طارده القوم وأحس أن أقدام المطاردين تقترب أخرج الزجاجة التي بها المادة من جيبه وقذفها عليهم ، فدوى انفجار لم تعرفه أذن من قبل وكف الأقدام عن مطاردته. وانتقل عرفة إلى بيت الفتوة على يمين البيت الكبير، وقرر الاعتماد على سحره. وذات ليلة اعترضه شبح، وأحس أنه رأى هذا الوجه من قبل على عتبة حجرة الجبلاوي ، وأخبرته صاحبته أنها جاءته تنفيذا لوصية الجبلاوي، وأنه مات وهو راض عنه فلم يصدقها عرفة لكنها أقسمت على صدق ما تقول. ثم تدور الأحداث و يقتل عرفة علي يد أحد أهل الحارة وفرح الناس لمقتل قاتل الجبلاوي. وعاد حنش يبحث عن الكراسة التي كان يضمنها عرفة سحره، ولكن يبحث عنها دون جدوى، وانتشرت الأخبار بأن حنش سيتم ما بدأه عرفة، وتفاءل الناس في الخلاص من الناظر، وأخذوا يكبرون ذكر عرفة عندما أدركوا ما كان ينشده من خير لهم، وأخذ الناظر يحكم قبضته على الحارة ، بينما تشبث أهلها بالصبر أملا في الخلاص من هذا الظلم والطغيان
الرواية كما هو واضح من أحداثها وشخصياتها ترمز إلى تطور الحياة البشرية منذ خلق الله عز وجل الإنسان، ولذلك امتلأت بالرموز والإشارات ، فموضوعها ينبني على حياة الأنبياء والرسل، بجانب الشخصية الأولى في الرواية و هي الجبلاوي، وهي التي ترمز إلى ذات الله عز وجل والدليل على ذلك ما أضفاه الكاتب على تلك الشخصية من أوصاف لا تكون إلا لله تعالى
يرمز البيت الكبير إلي الجنة و ترمز الحارة إلي الأرض. بينما يرمز أدريس إلي أبليس و أدهم إلي آدم و أميمة إلي حواء. بينما يزمز قنديل إلي جبريل عليه السلام و يرمز قدري و همام إلي قابيل و هابيل: و قتل قابيل هابيل. يرمز جبل إلي موسي و آل حمدان إلي بني إسرائيل و الناظر إلي فرعون. بينما يرمز رفاعة إلي عيسي عليه السلام و أصحابه بالحواريون. و يرمز قاسم إلي سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام فكان يكني أبا القاسم و قمر إلي السيدة خديجة و صادق إلي أبو بكر الصديق و حسن إلي علي بن أبي طالب. ترمز هجرة قاسم للحارة إلي هجرة الرسول و معركة النبابيت إلي غزوة بدر. و لكن إلي ماذا ترمز شخصية عرفة؟
عرفة الشخصية الرئيسة في الجزء الأخير من الرواية ويرمز به الكاتب إلى رجل المادة أو العلم أو العلمانية. ولذلك جعله الكاتب مجهول الأب إشارة إلى أن العلم ليس له أب ولا جنس معين. كذلك لا يؤمن بشيء إلا إذا رآه بعينيه وجربه بيديه. إشارة إلى عدم إيمان العلم المادي بالغيبيات، واعتماده على التجربة والأشياء الملموسة. يرمز مقتل عرفة للجبلاوي --حسبما رأي النقاد- أن العلم سيقضي علي فكرة الله في عقول الناس بينما دافع نجيب محفوظ عن روايته و قال أنها ترمز إلي أن العلم سيقضي علي الجهل و الخرافات يوما ما. وهكذا تبدوا رموز الرواية واضحة الدلالة تكشف عما ترمز إليه بوضوح ودون خفاء وإن حاول الكاتب أن يلبسها زي الواقعية محاولا إخفاء ما ترمز إليه، ولكن هذه الغلالة الرمزية الرقيقة كانت تشف عما تحتها وتبرز ما دونها
لقد أراد الكاتب من خلال تلك الرواية أن "يعد كتابة تاريخ البشرية منذ أن كان الإنسان الأول ، وما الإنسان الأول إلا آدم الذي إليه جميعا ننتمي ، في نظر التفسير الديني للتاريخ ، وهل ممن الممكن أن نتحدث عن آدم دون أن نتحدث عن الله وعن الأرض وعن ملائكة السماء وإبليس ، وعن الحلم المستحيل في استعادة الفردوس؟ وكيف يمكن أن يكون الله والملائكة وإبليس وآدم شخصيات رواية؟ أي كيف يمكن الحديث عنهم من غير انتهاك للمقدسات؟
أما الفكرة التي تهدف إليها الرواية فإنها تدور على أهمية العلم وقيمته ، وأنه لا خلاص من الظلم والتخلف والفقر والجهل إلا بالعلم ، أما الدين فإنه غير كاف ، واللجوء إليه لن يخلص الناس من شرور الظالمين ، ولن يرفع الظلم عن كاهل المقهورين ، أو أن الدين قد انتهى دوره ، وحل محله العلم المادي الذي يرمز إليه عرفة الذي انتصر على الجبلاوي رمز الدين ، وصارت مكانته لدى الناس أو عند أهل الحارة فوق مكانة جبل وعرفة وقاسم ، وهذا ما يرجوه كاتب الرواية. فإذا كانت الرواية تعبر عن حقيقة العدالة والتنظيم والخلاص من الشرور، ومحاولة الإصلاح ، فإنها ركزت على العلم المادي كوسيلة لتحقيق هذه الأمور. لقد انتهى دور الدين في نظر الكاتب، وانتهى رمز الإله ، وبشرنا الكاتب بدين جديد هو العلم ، ولذلك فإنه يؤمن بقوة العلم وسيطرته ، تلك القوة التي لا تحوزها الأديان مجتمعة في رأيه ، ولذلك كانت نهاية الرواية بموت الجبلاوي أو موت الإله , وهروب عرفة بزجاجته السحرية، أو بقاء العلم برغم ما يصادفه من عقبات وما يحبط به من شرور. وهذه أمور ما كان ينبغي أن يزل فيها كاتب كبير كنجيب محفوظ ، ولا يقنعنا في ذلك أن يتخفى الكاتب وراء الرمز ، الذي استخدمه في الرواية ، وما من شك في أن أي دفاع أو تبرير لا بد أن يعتمد على تزييف الحقيقة الماثلة في الرواية. وسوف تبقى الرواية أقرب إلى الروايات التسجيلية ، وإن كان هذا الجانب معتمدا على فكر الكاتب ، لا على أحداث التاريخ الصحيحة ، فهو يعبر في روايته عن رؤيته الخاصة لتلك الأحداث التاريخية